الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة الدكتور أحمد المناعي يكتب: صدمات الطفولة الأولى

نشر في  03 أكتوبر 2022  (13:31)

 بقلم الدكتور أحمد المناعي: رئيس المعهد التونسي للعلاقات الدولية وعضو البعثة العربية السابق إلى سورية

 

عرس خالي محمد وصدمتي الأولى

منذ ايام ولا حديث بين أمي وأبي الا عن عرس خالي محمد الذي لم أكن أعرفه الا بالاسم. كنت اعرف فقط انه أكبر من امي وانه يسكن في تونس. كانت امي تفتخر به كثيرا وتفاخر به سلفاتها فقد كان حاكم في الدريبة وكان الجميع يوقرها فقد كانت أخت الحاكم. لم أكن اعرف ما معنى الحاكم ولا معنى الدريبة فقد كان عمري آنذاك خمسة سنوات وشهرين ولم أكن قد تجاوزت بعد حدود الحومة ولا أكاد أخرج من الدار الا لأجيب سطل الماء من بئر زعبار الذي يجاورنا. كان المجر ينتهي في شوكة دارنا.

وجاء موعد العرس وحان وقت السفر الى تونس وفي فجر يوم 3 ماي 1947 جهز أخي محمد البهيم والكريطة وانطلقنا الى سوسة أولى مرحلة في هذه السفرة خارج الوردانين. سلكنا الطريق العربي لأنها حسبما قال أبي أقرب فهي لا تبعد عن سوسة سوى عشرة كلمترات وهي الطريق التي تمر بالثريات وزاوية سوسة وقصيبة سوسة ولاتزال كما كانت بعد خمس وسبعين سنة سوى انها تعبدت في السنوات الأخيرة بعدما مرت بمراحل عديدة أهمها طليها بمرجين الزيتون في عهد التعاضد لقربه من لون الزفت.

يبدو أننا وصلنا بسرعة والفضل في ذلك الى حمارنا المصري الذي كان أشبه بالحصان في شكله العام وفي قوته وسرعته لكن دون جمال الحصان وأناقته وهيبته.

عندما وصلنا محطة القطار أنزل أبي القفة وفيها زادنا وزوادنا للطريق ونزلنا جميعنا من الكريطة الا أخي محمد الذي استلم الشكيمة من أبي وودعنا راجعا الى الوردانين.

كنت في ما يشبه البهتة

أول ما أبهرني في سوسة فجرذلك اليوم أنوارها وفيها اكتشفت الكهرباء الذي لم يدخل بعد الى الوردانين اللهم في بعض البيوت القليلة وابهرتني ايضا البناءات والعمارة.

دخلنا المحطة- وهي الى اليوم على الحال الذي كانت عليه منذ أكثر من سبعين سنة- ومنها الى الساحة حيث ينتظر الركاب القطار. سألت أبي عن القضبان الحديدية الطويلة الممتدة على الأرض فقال لي انها طريق القطار تعجبت ان يكون ذلك طريق ولكني صدقت لأنه أبي ولأنه كثيرا ما كان يسافر بالقطار لتجارته فهو يقوم ويحط كما كانت تقول عنه جدتي عائشة ويعني ذلك انه متعدد الأختصاصات فتارة يتاجر في الزيت واخرى في الأغنام وثالثة في كل شيء الا ما حرم الله ولكن قرة عينه في الفلاحة.

لم يكن المسافرون كثر يومها بضعة أشخاص فقط. جلس ثلاثتنا على أحد المقاعد الحجرية وكنت بين والدي اتدفأ بحرراتهما فقد كان البرد قارصا في الساعات الأولى من النهار في الربيع الساحلي.

ثم جاء فريق من ثلاثة اشخاص طفل في عمري وأبواه وجلسوا على المقعد المجاور. بدى لي الجمع أنهم جاءوا من عالم أخر فلم ارى مثلهم من قبل. سألت أبي عنهم فقال لي انهم فرنسيس. كانت تلك أول مرة أكتشف فيها الفرنسيس وأعرف انهم بشر. فلحد ذلك الوقت لم يدخل الوردانين فرنسي واحد وكان من الأطفال من يحسبهم نوعا من الحلوى ويذكر عن طفل من عرش الشتاوة ان أوصى والده المتسوق ان يأتي له بفرنسي ليأكله.

وزاد في استغرابي لباسهم وخصوصا لباس الأبن فقد كان يلبس قميصا يبرق بيوضة وسروالا قصيرا فوق الركبتين لكن الذي أبهرني أكثر هو صباطه الاسود اللماع والذي يعلو الكعبين. وفي السنوات التالية عرفت ان هذا النوع من الصبابط يسمى نصف قصبة. ساعتها عرفت ان للساقين ايضا لباس يسمى الصباط وانني كنت حافي القدمين ككل اترابي في قريتي وحتى أغلبية الرجال.

ويبدو ان الطفل قد شعر هو الاخر بما يفرق بيننا وما يتميز به عني فأخذ يتمشى امامي ويتبختر ذهابا وايابا المرات العديدة في خيلاء الطاووس وفي كل خطوة يسمعني قزقزة صباطه الجديد اللماع.

لا اذكر انني تأثرت من ذلك كثيرا او انني شعرت بشيء من الحسد او الحقد او النقمة فقد كنت منشغلا عن استعراضاته بالبحث عن اسرار ما كان يأكل؟

 كان الطفل يمسك بين يديه قطعة من الخبز الملفوفة في كاغط أبيض وكلما قضم فيها فاحت رائحة شيء عجيب وعرفت بعد سنوات عديدة ان ذلك الشيء يسمى تن،

وقتها لم ارى في الطفل أكثر من طفل فرنسي يختلف عني ولم اكتشف انه ابن المعمر الفرنسي المغتصب الا بعد خمس سنوات ابان احداث جانفي 1952 وبالخصوص يوم اغتيال فرحات حشاد في ديسمبر 1952.

عندما وصلنا الى العاصمة كانت صدمتي الثانية في نفس اليوم

صهر خالي قاض من عائلة بن حميدة أصيلة المهدية. عندما دخلت الدار ماسكا بأهداب امي خيل لي أنني في قصر ملكي ومع ذلك وبعد سنوات طويلة من زيارتي الأولى التردد عليه ظهرلي عاديا جدا في المدينة داخل الأصوار.

لم يمر دخولي دار العرس حفيانا دون همز ولمز وغمز واستغربت أن يثير ذلك امتعاض البعض وهزؤ البعض الاخر فقد سمعت امرأة تستغرب كيف يؤتى بي حافي القدمين؟ ولكن الأمر سرعان ما هدأ فقد اختفيت في أهداب أمي وفي الزحمة والضوضاء. لكني استغربت أن يكون ما هو عادي جدا في الوردانين محل سخرية في تونس.

 لم تكن تلك اخر مفاجأتي.

بعد برهة من وصولنا بدأ توزيع المرطبات والحلويات وجاءتنا بنت سوداء بطبق فيه حلويات لم أعهدها من قبل. الحلويات التي تعودت عليها نوعان فإما المقروض المشرح المتقاطر عسلا من السكر أو الغريبة المصنوعة من السميد والسكر في شكل مخروط وفي حجم البنية. كانت الكعبة الواحدة تشبع الجوعان. أما ما قدمته لنا الفتاة فهو غريب عني. وأسرعت برفض هذا الشيء الغريب وانكمشت على نفسي لا لجهلي بالشيء ولكن لأن الفتاة موسخة…هكذا قلت لأمي ببراءة الأطفال. وردت على أمي لا يا وليدي فهي ليست موسخة ولكن ذلك هو لونها الطبيعي. صدقت أمي لطلبها الملح. وأخذت كعبة. قيل لي أن اسمها بقلاوة وكانت ألذ وأحلى ما أكلته في حياتي. ومنذ ذلك اليوم اقترنت حلاوة البقلاوة عندي بحلاوة البنت الزنجية ولم أشعر بعد ذلك والى ساعة اليوم الا بالمحبة والتقدير والاحترام لأصحاب البشرة الدكناء.

ملاحظة: في أول أيام عملي في قبلي سنة 1969 شعرت بأن معاملة الزنجي فيها شيء من العنصرية وسوف أتعرض الى ذلك في مناسبة أخرى.